الرزّاق
حدث أنه في أحد الأيام البعيدة .... تخرج شاب طويل أبيض حييى من كلية الآداب قسم اللغة العربية ... لم تكن لديه آمال عريضة أو بعيدة المنال .. كان يعرف أنه تعلم ليكون معلماً .. وقد كان سعيداً أنه يستطيع تدريس اللغة العربية والقرآن الكريم للصغار .... في المدراس والمساجد ... كان يتمتع بخفة ظل ملحوظة ونكتة حاضرة .... وله قبول في قلب كل من يسمعه ... وتلفت ليتمم دينه بالزواج باحثاً عن ابنة خالته الجميلة .... ولم يخيب أبناء الخالة رجاءه وزوجوه لتقواه ... حتى أنه استعار البدلة والحذاء من أقربهم إليه صداقة وصحبة ...
وشعر عبد البديع أن الدنيا قد ابتسمت وتم رسمها بالنسبة إليه ... فكل شئ هادئ .... والرضا والقناعة بالقليل تجعل من بيته قصراً عامراً ... وبين المسجد ومدرسة القرية الصغيرة ... وخطبة الجمعة أحياناً .... اشتهر في بلدته والبلاد المجاورة بحلو الحديث .... وبساطة التعبير .
ولكن !!! وكما تقتلعك العواصف بغباء من حيث تستقر اقتلعته يد غاشمة وألقت به في سجن كئيب .... بل ومنعت راتبه عن بيت فيه زوجة وثلاثة أطفال ...
قبع في زنزانة لا يعرف ماذا يفعل وكيف يتصرف ولم يهدئ من روعه إلا زيارة أنسبائه أبناء الخالة ليطمئنوه على بيته وبنيه .....
بعد عام كامل أُفرج عنه ..... وقرر السفر .. لم يكن القرار وليد هوجة أو ثورة غضب بل كان قراراً مدروساً بهدوء ... ومن يهاجر في الأرض يجد مراغما كثيراً وسعة
لم تكن البلاد العربية وخاصة بلاد الخليج هي موطن المال كما هي معروفة اليوم ... كانت دويلات وإمارات استقلت وتستقل حديثاً ... وبشائر البترول تدق أبوابها على استحياء ...
اختار أحد الإمارات الصغيرة وشد رحاله إليها وأرسل في طلب زوجته وأبنائه
وفي المطار وقفت صغيرة بضفيرة صفراء طويلة تقبل أخوالها وقد تعلقت برقبة أحدهم باكية :
- هتوحشني قوي يا خالي ..... ابقي شيل لي شوكولاتة .... أنا عارفه بابا مش معاه فلوس يجيب لي .. أنت بس اللي كنت بتجيب لي شوكولاتة
والخال من بين دموعه يعدها أنه سيجعل لها واحدة كل مرة يشتري لأبنائه وسيحتفظ بها في الثلاجة إلى أن تعود .....
وكما كان في قريته ... كان في غربته يعلم القرآن واللغة العربية للصغار بين المسجد والمدرسة .... وكما كانت بديهته الحاضرة وخفة ظله هي مفتاحه للقلوب ... ظلت مفتاحه للعقول والقلوب ...
ما سأقوله لكم الآن ليس مبالغة من أجل الحبكة الدرامية .. بل ما حدث فعلاً ... فلقد سمع به أمير البلاد .. فطلبه إلى قصره وضمه إلى حاشيته ولم يمر كثير وقت حتى صار مدير مكتبه وسكرتيره الخاص ... يكتب له ويرد عنه ...... وتم منحه الجنسية
وكبرت ابنته الصغيرة ولم ترجع إلى البلدة الصغيرة في أعماق الريف المصري ولم تحصل على الشوكولاته خاصتها من ثلاجة خالها ..... لسنوات وسنوات امتدت إلى خمس عشرة سنة .. ثم كانت أول زيارة وأول عودة لبيت القرية الصغير